بسم الله الرحمن الرحيم
الوجودية هي مذهب فلسفي و الصحيح أنه أدبي سلوكي فهو من الأدب السلوكي أكثر منه مذهبا فلسفيا لأنه يعتني بالشعور أكثر من العقل و هذا يناقض الفلسفة التي هي بالأصل مأخوذة من فيلاسوفيا و التي تعني باليونانية " محبة الحكمة " و لكنهم يقولون بأن الوجودية مذهب فلسفي يعتني بإعلاء قيمة الإنسان و جعله هو مركز الوجود الكوني و يمنحه حق تمثيل نفسه و تصور وجوده في الكون على أي صورة يراها مناسبة دون التقيد بفكرة مسبقة أو بفكرة عامة حالية يخضع لها المجتمع و التي يسمونها بالعقل الجمعي و دون البحث عن مرتكزات مرجعية التي هي " المسلّمات " لكي يبني عليه الوجودي تصوره فمن حقه أن يتصور بلا دليل و بلا قانون .
و لعل أول من دعى للوجودية هو سقراط عندما قال : " إعرف نفسك بنفسك ! " . و قد نشأت الوجودية كأفكار قلقة قديما و لكن الذي أصل لها و جعل لها دستورا فكريا هو الكاتب و الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر المولد عام 1905 م و كان شيوعيا ثم اتجه إلى الوجودية أثناء الحرب العالمية الثانية عندما استفحل القتل في الناس و صار الموت هاجسا يوميا و وقع القتل بشكل جماعي ينذر بحالة من " هاجس العدم الكلي " . كان من الطبيعي أن يصاب الإنسان الأوروبي بخيبة أمل و باضطراب شديد بعد أن تنكر للدين أبان تمسكه بالعلمانية أثناء النهضة الأوروبية و التي علمته التنكر لكل ما جاءت به الكنيسة من أفكار تنناقش ما وراء الطبيعة من الموت و الجنة و النار , ثم وجد نفسه أمام سؤال كبير لم يكن هو هاجسه اليومي قبل الحرب عندما كان يصنع و ينتج و يحلم بعالم من التطور و السيطرة على الطبيعة , وهو سؤال : الموت , العدم !! .
و هنا بدأ سارتر رحلته في إيجاد مبررات لإنكار هذا الهاجس و التملص منه فأخذ يشيع الأفكار الداعية إلى تعظيم ذات الإنسان و تحريرة من فكرة " الله و السيطرة الخفية " و كان ينشر افكاره على نحو من السرد القصصي و قد كان ذلك واضحا في مثال ضربه حول وجود عقاقير في صيدلية ما فقال بأنك تتساءل عن مكوناتها فإذا عرفت أنها من المركبات الفلانية تساءلت مثلا , هذا الماء الذي تسبح فيه المكونات من اي شيء هو ؟ فإذا علمت أنه من هيدروجين و أكسجين تساءلت عن ماهية الأكسجين ؟ و هنا يتوقف الفهم للماهية و تجد نفسك في حالة قلق معرفي تجاه الأكسجين !!.
يريد بهذا أن هذه الحياة مليئة بالأشياء التي لا ندرك حقيقة ماهيتها ثم نحن نعيش بكل سعادة و لا نكترث لهذا الهاجس المعرفي فلماذا نجعل الموت شيئا مميزا يختلف عن قلق المعرفة بحقيقة الأكسجين مثلا ؟. بعد هذا ينطلق في تسفيه قلق الموت و ما وراء الموت و يجعله شيئا لا يستحق العناء و يجعل سلطة الفكرة الإلهية مرتبطة به فهي أيضا لا تستحق العناء و إنما الإنسان حياة و شعور و ممارسة و تصور يرسمه هو لذاته كيف يشاء يعيش به سعيدا جذلانا و لو كان يرى نفسه لاشيء على الإطلاق فالإنسان عظيم و له الحق أن يكون ما يشاء طالما أنه يرضى بذلك ! .
و بسبب أن المنطق يفرض على كل شيء أن يكون نتيجة لشيء سابق فقد سعى إلى جعل الإنسان هو مركز كل شيء و أصل كل شيء حتى أن الوجودية تقول بأن ماهية الإنسان كانت سابقة لوجوده و هنا يجتمع المذهب الصوفي الحلولي مع المذهب الوجودي فالصوفية الحلولية يقولون بأن الله بعد أن كان ماهية مطلقة بلا وجود صار موجودا في كل شيء حتى أن الحلاج الصوفي نفض جبته ذات يوم وقال : ليس في هذه الجبة إلا الله !! , تعالى الله عن ذلك .و لهذا تجد أن الغرب يهتم كثيرا لأمر الصوفية و يحاول ترجمة كتبها و يدرسها و يحاول أن يجعل منها منفذا لأسلمة الوجودية لدى المسلمين كما فعل عبد الرحمن بدوي في كتابه " الوجودية و الإنسانية " حيث يقر بأن الوجودية ليست مذهبا غريبا علينا و أن جزء من تراثنا غير أن وجودية الصوفية تؤمن برب متحكم و لا تخضع له لأنها هي ذات الرب بينما وجودية الغرب تجعل الرب هو الإنسان ذاته أو الطبيعة .
و الوجودية ناتجة عن قلق ينتهي بصاحبه إلى شخصية غير مستقرة تنتهي به في النهاية إلى عزلة اجتماعية و كونية ثم بعضهم يستفحل عنده الأمر ليتحول إلى ألوهية بطابع بشري ثقافي . فالإنسان الوجودي الجمالي هو مجرد فاسق من كل المقاييس يمارس اللذة اينما وجدها و لا يؤمن بماهية و لا غاية لأي شيء , فالمال سلطة و المرأة جنس و الطبيعة لقمة سائغة لمن يلتقطها أو لا ثم ينغمس في هذا حتى يصل إلى مرحلة من التشبع تنتهي به حالة من " السخرية من كل شيء " و السخرية المتطرفة مرحلة من مراحل الوجودية التي يمر بها الإنسان الوجودي دون أن يشعر , فكل شيء تافه و كل شيء لا يهم و كل شيء يجري على غير هدى و كل المسارات متطابقة حيث كلها تسعى لمجرد الممارسة ليس إلا ثم يصل بعد ذلك إلى مرحلة العبث و هي تفعيل السخرية على نحو جاد بحيث لا يرى لأي شيء حقا عليه و لا يعترف بمسؤليته عن أي شيء و لا يتصور أبدا أنه جزء من أي شيء آخر بل هو كون مستقل و ليس لأحد أن يفرض عليه أي مقياس و هذا يلخصونه بمقولة ( لا مقياس فافعل ما شئت !! ) . و هذه المرحلة أي مرحلة العبث التي تلي السخرية و هي ناتجة عن حالة من " العجز عن السخرية " تتطور بالإنسان القلق إلى أن يصل إلى حل ديني تصوفي بحيث يحاول أن يرسم لوجوده معانٍ دينية تحل له قلق ما بعد العبث و تريح نفسه القلقة المنهكة من مشوار الوجودية فينتهي به الحال إلى نصف إله أو حتى إله كامل هو من يقرر دخول نفسه الجنة أو حتى يرسم لنفسه عالما جديدا بعد الموت يقتنع تماما أنه سيذهب إليه كما هي حال البوذية و عبدة الشمس و المؤمنين يتناسخ الأرواح من الدروز مثلا . و كذلك ينتج عن ذلك طائفة من المرجئة الذين يرون الإيمان كلمة يقولونها و أنهم لا يخافون من النار لمجرد أنهم يحبون الله - بزعمهم - و هم لا يمتثلون لأي شيء من أمره ! .
أهم مقومات الوجودية في النفس البشرية و التي تسبب اعتناقها هي :
-الإعتقاد بأن الدين و الحكمة لم تحل مشكلة الإنسان .
-جعل الغريزة و الشعور و الانفعال هي المحرك لكل حياة الإنسان و منحها شرعية السيطرة .
-الدعوة للحرية المطلقة في تمثيل الذات و نفي كل شيء قد يعيق حرية الانسان في تمثيل نفسه كما يشاء حتى و لو كان بتغيير جنسه من ذكر إلى أنثى أو العكس .
-التنكر لكل المسلمات و جعلها قابلة للنقد كالدين و المنطق و الحكمة و عدم الإيمان بها .
-النظر إلى الأخلاق على أنها سلوك عادي لا يفرض احترامه على أحد و أن كل الأخلاق متساوية طالما أنها تحقق السعادة للناس .
و بشكل عام كلما وجدت نفسك تتجه إلى الشهوة و إلى العبث و إلى السخرية و إلى إنكار غايات الأشياء و إلى نفي القيم الثابتة لها و النظر للقيم المختلفة على أنها متساوية فأنت تسير خطاً حثيثة نحو المذهب الوجودي سواء صمت و صليت أم جلست في بيت أمك !! , و التدين الصوري لا يمنع اعتناق الوجودية بل أن هناك قسم آخر يقابل القسم الملحد و هو عند الغرب الوجودية المسيحية و عندنا يعرف بالتصوف !.
و لهذا اقول : كلما سخرت فاعلم أنك تعبث بنفسك !!.